فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأبلغ سبحانه قوم عيسى عليه السلام أنه سيأتي في أمة محمد بمنهج يعطيهم ما فقدتموه من المادة؛ بسبب أنكم انعزلتم عن الحياة وابتدعتم رهبنة ما كتبها الله عليكم، بينما نحن نريد حركة في الحياة.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار...} [الفتح: 29].
ومن حق المسلمين أن يقولوا: أيها الكافرون ليست لكم مادة تطغون بها علينا؛ لأن الإسلام يريد من حركة حياتنا على ضوء منهجه في الأرض أن تتوازن المادة مع القيم؛ لأن القيم هي التي تحرس الحضارة، والمادة إنما تحرس القيم، وحين يمتلك المسلمون القوة المادية فسيرتدع أي إنسان عن أن يطمع في فتنة المسلمين في دينهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ...} [الأنفال: 60].
فالكفار إذا رأوك قد أعددْتَ لهم يتهيبون.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق:
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التوراة والإنجيل والقرآن}
وما دام الحق قد أعطى الوعد، فلن يوجد من هو أوفى منه؛ لذلك يقول: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} وبذلك يطمئننا سبحانه على أن وعده محقق؛ لأن العهد ارتباط بين مُعَاهَد ومُعَاهِد، والذي يخرج عن هذا الارتباط أمران:
الأول: ألا يكون صادقًا حين أعطى عهدًا، بل كان في نيته ألا يوفي، ولكنه أقام العهد خديعة حتى يستنيم له المعَاهَد.
والأمر الثاني: أن يكون قد أعطى وعدًا بما لا يستطيع تنفيذه، فهو كاذب.
والله لا يليق به لا الكذب ولا الخديعة؛ فسبحانه مُنزَّه عن كل ذلك، ولا أحد أوْفَى بالعهد من الله.
فقد يُطعن في العهد والوفاء به عدم القدرة، لكن قدرة الحق مستوفية.
إذن: فالعهد الحقيقي إنما يؤخذ من الله، وقد جاء الحق بهذه القضية بشكل استفهامي {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله}؟ فالإجابة: لا أحد؛ لأن الذي يقدح في مسألة العهد الخُلف والكذب وغير ذلك.
والله سبحانه مُنزَّه عن الكذب والخديعة؛ لأن الخديعة لا تأتي إلا من ماكر، وإذا سمع أي إنسان {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} ثم أدار فكره في الكون ليبحث عن جواب، فلا يجد إلا أن يقول: الله، ولا أحد أوفى من الله بالعهد. وما دام الوعد بالجنة، فالجنة لا يملكها إلا هو سبحانه ووعده حق، وكلها تأكيدات بأن المسألة واقعة وحادثة.
ولهذا يقول سبحانه: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 111].
فالنتيجة لهذه المسألة كلها من شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ثم وعده الحق المبيّن في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلها شهادات مسجلة هي الاستبشار بما باعه المؤمن لله. فالإنسان- ولله المثل الأعلى- لا يسجل إلا ما يكون في صالح قضيته، ولا يسجل للخصم، فعندما يكون عندك صَكٌّ على فلان، فأنت الذي تحتفظ به وتحرص عليه؛ لأنه يؤيد حقك.
والحق سبحانه يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
والقرآن هو الحجة الكاملة الشاملة في كل أمور الدنيا والآخرة، ومن فَرْط صدق القرآن أن البشر قد يصلون إلى قضية كونية ما، ومن بعد ذلك تُخَالَف، وحين تعود إلى القرآن تجد أن كلام القرآن هو الذي صدق، وقد حفظ الحق سبحانه القرآن لأن قضايا الكون الذي خلقه الله لا يمكن أن تخرج عن قضايا القرآن؛ لأن منزل القرآن وخالق الكون واحد، فلا شيء يصادمه.
{فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ}
قول الحق: {فاستبشروا} مأخوذ من البشرة، وهي الجلد عامة، وإن كان الظاهر منه هو الوجه.
وحين يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فقد يفهم أحد أن النفس سوف تضيع، وأن الأموال سوف تنفق، وهذا قد يُقبِضُ النفس فهذا فيه الموت، وخسارة للمال، وكان من الطبيعي أن يشحب وجه الإنسان ويفزع ويخاف. ولكن ساعة يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله اشترى} يجد بشرة المؤمن تطفح بالسرور. والبشر، ويحدث له تهلل وإشراق، مع أنه هنا سيأخذ نفسه، ولكن المؤمن يعرف أنه سبحانه سيأخذ نفسه ليعطيه الحياة الخالدة.
إذن: قضايا الإيمان كلها هكذا لا يجب أن تصيبنا بالخوف، بل علينا أن نستقبلها بالاستبشار، ولذلك يقول الحق: {فاستبشروا} أي: فليظهر أثر ذلك على بشرتكم إشراقًا وسرورًا وانبساطًا.
{فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ} وهل يستبشر الإنسان بالبيع؟ نعم؛ لأن الإنسان لا يبيع إلا ما يستغني عنه عادة، ويشتري ما يحتاج إليه، فهنا الاستبشار بالبيع وليس بالشراء، فالمؤمن هنا يبيع فانيًا بباق.
{فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وأنت إذا ما نظرت إلى الذين يخالفون العهد الذي أخذ عليهم، تجد الواحد منهم يحتاج للمخالفة لأن وفاءه يتبعه. لكن الحق سبحانه ليس في حاجة لأحد وهو غني عن الجميع، ولا يوجد أدنى مبرر لخُلْف الوعد أبدًا.
وتأتي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصفقة التي انعقدت بينكم وبين ربكم.
{وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} والفوز هو بلوغ الغاية المأمولة في عرف العقل الواعي، كما تقول لابنك: ذاكر لتفوز بالنجاح وتقول للتاجر: اجتهد في عملك بإخلاص لتفوز بالربح.
إذن: فهناك فوز، وهناك فوز عظيم والفوز في الدنيا أن يتمتع الإنسان بالصحة والمال وراحة البال. وهناك فوز أعظم من هذا؛ أن تضمن أن النعمة التي تفوز بها لا تفارقك ولا أنت تفارقها، فيكون هذا هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه؟. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال عبدالله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة.
قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم...} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} الآية. فكبر الناس في المسجد. فأقبل رجل من الأنصار ثانيًا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقبل ولا نستقيل.
وأخرج ابن مردويه عن أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله».
وأخرج ابن سعد عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال: يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدًا؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإِنس كافة. فقالوا: نحن حرب لمن حارب وسلم لمن سالم. فقال أسعد بن زرارة: يا رسول الله اشترط عليَّ، فقال: «تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم».
قالوا: نعم.
قال قائل الأنصار: نعم هذا لك يا رسول الله فما لنا؟ قال: «الجنة والنصر».
وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس بن عبد المطلب- وكان ذا رأي- إلى السبعين من الأنصار عند العقبة فقال العباس: ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينًا وإن يعلموا بكم يفضحوكم. فقال قائلهم وهو أبو أمامة أسعد: يا محمد سل لربك ما شئت ثم سل لنفسك وأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك. فقال: «أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم».
قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة». فكان الشعبي إذا حدث هذا الحديث قال: ما سمع الشيب والشبان بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان إذا قرأ هذه الآية: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} قال: أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة} قال: ثامنهم- والله- وأعلى لهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: ما على ظهر الأرض مؤمن إلا قد دخل في هذه البيعة. وفي لفظ: اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}.
وأخرج ابن المنذر من طريق عياش بن عتبة الحضرمي عن إسحق بن عبدالله المدني قال: لما نزلت هذه الآية: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم. فقال الأنصار: بيع رابح لا نقيل ولا نستقيل قال عياش: وحدثني إسحاق أن المسلمين كلهم قد دخلوا في هذه الآية، ومن كان منهم إذا احتيج إليه نفع وأغار، ومن كان منهم لا يغير إذا احتيج إليه فقد خرج من هذه البيعة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون} يعني يقاتلون المشركين {في سبيل الله} يعني في طاعة الله: {فيقتلون} العدو {ويقتلون} يعني المؤمنين {وعدًا عليه حقًا} يعني ينجز ما وعدهم من الجنة {في التوراة والإِنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله} فليس أحد أوفى بعهده من الله: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} الرب تبارك بإقراركم بالعهد الذي ذكره في هذه الآية: {وذلك} الذي ذكر من الثواب في الجنة للقاتل والمقتول {هو الفوز العظيم}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} قال: ثامنهم- والله- فأعلى لهم الثمن {وعدًا عليه حقًا في التوراة والإِنجيل والقرآن} قال: وعدهم في التوراة والإِنجيل أنه من قتل في سبيل الله أدخله الجنة.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن شمر بن عطية قال: ما من مسلم إلا ولله تعالى في عنقه بيعة وفّى بها أو مات عليها {إن الله اشترى من المؤمنين} الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن الربيع قال: في قراءة عبدالله رضي الله عنه {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة}.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {إن الله اشترى...} الآية.
قال: نسخها {ليس على الضعفاء} [التوبة: 91] الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن سليمان بن موسى رضي الله عنه: وجبت نصرة المسلمين على كل مسلم لدخوله في البيعة التي اشترى الله بها من المؤمنين أنفسهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
قوله تعالى: {بِأَنَّ لَهُمُ}: متعلقٌ بـ {اشترى}، ودخلت الباءُ هنا على المتروك على بابها، وسَمَّاها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض.
وقرأ عمر بن الخطاب {بالجنة}.
قوله: {يُقاتِلُون} يجوز أن يكونَ مستأنفًا، ويجوز أن يكونَ حالًا. وقال الزمخشري: {يقاتلون} فيه معنى الأمر، كقوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11]. قلت: وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأن الطلب لا يقع حالًا. وقد تقدَّم الخلاف في {فيَقتلون ويُقتلون} في آل عمران.
قوله: {وَعْدًا} منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة لأنَّ معنى {اشترى} معنى وعدهم بذلك فهو نظير هذا ابني حقًا. ويجوز أن يكونَ مصدرًا في موضع الحال، وفيه ضعف. و{حقًا} نعت له، و{عليه} حالٌ مِنْ {حقًا} لأنه في الأصل صفةٌ لو تأخَّرَ.
قوله: {فِي التوراة} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ {اشترى} وعلى هذا فتكونُ كل أمة قد أُمِرت بالجهاد ووُعِدت عليه الجنة. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ للوعد، أي: وعدًا مذكورًا وكائنًا في التوراة، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورًا في كتب الله المُنَزَّلَة. وقال الزمخشري في أثناءِ كلامه: لا يجوز عليه قبيحٌ قط، قال الشيخ: استعمل قط في غير موضوعه؛ لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه وقط ظرفٌ ماضٍ؛ فلا يعمل فيه إلا الماضي، قلت: ليس المراد هنا زمنًا بعينه.
وقوله: {فاستبشروا} فيه التفاتٌ من الغَيْبَة إلى الخطاب لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفًا لهم، واستفعل هنا ليس للطلب، بل بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. وقوله: {الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} توكيدٌ كقوله: {الذي بَنَوْاْ} [التوبة: 110] لينصَّ لهم على هذا البيعِ بعينه. اهـ.